حقيقة الصوم
بقلم: فؤاد الدقس
كاتب سوري
يقول الله تعالي في محكم تنزيله: "ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون" "البقرة: 183"
العبادة هي: التقرب إلي الله تعالي بأقصي غايات الخضوع والتذلل له سبحانه
فيما شرعه لعباده من أوامر وتكاليف. ومن أرقي العبادات وأخصها عبادة الصوم
التي قال عنها المولي تبارك وتعالي في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له
إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به.
هكذا شأن الصوم عند المسلم علاقة خاصة بين العبد وربه بلا رياء ولا سمعة تقربه من الله وتجعله من خواصه.
وفي هذه الآية الكريمة يخبر الحق تبارك وتعالي أن الصوم كان ركناً أساسياً
في جميع الأديان السماوية التي دانت بها الأمم السابقة. كما أنه كذلك حتي
في الشرائع الوثنية. فقد كان قدماء المصريين. والإغريق. والرومان. وسكان ما
بين النهرين في العراق. يصومون أياماً مختلفة في العام.
والذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند
والتبت. ومن طقوسهم في نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتي ابتلاع الريق
لمدة أربع وعشرن ساعة. وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحاً
من الشاي. وكان قساوسة جزيرة كريت في اليونان القديمة لا يأكلون طول حياتهم
لحماً ولا سمكاً ولا طعاماً مطبوخاً.
أما في الشرائع السماوية والديانات التي جاء بها المرسلون من عند الله
تعالي فقد روي أن سيدنا نوحاً عليه السلام صام عندما جنحت به سفينته إلي
البر ما شاء الله تعالي له أن يصوم. وهذا الصيام كان شكراً لله تعالي علي
نجاته ومن معه من المؤمنين والله أعلم.
ومعروف أن سيدنا موسي عليه السلام كان يصوم ثلاثين يوماً كل عام وكان
للعبريين صوم خاص يؤدونه. غير أن اليهود. جعلوا يصومون يوماً واحداً في
العام. هو يوم عاشوراء. ابتهاجاً بنجاة نبي الله موسي عليه السلام وبني
إسرائيل من الغرق عندما تبعهم فرعون ولذلك عندما قدم رسول الله - صلي الله
عليه وسلم - المدينة المنصورة مهاجراً وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال -
صلي الله عليه وسلم: نحن أولي بموسي منهم. وطلب من أمته صيام يوم آخر معه
إما قبله وإما بعده لمخالفة اليهود.
وعن صوم النصاري ذكر الشعبي وقتادة وغيرهما أن الله تعالي كتب علي قوم موسي وعيسي عليهما السلام صوم رمضان فغيروا.
ويشبه صوم النصاري وما فرض عليهم - قبل تبديلهم - صوم المسلمين قبل التخفيف عنهم.
وقد صامت السيدة مريم بنت عمران صوم الصمت. وقد تحدث القرآن الكريم عن
صومها فقال: أحكم الحاكمين: "فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت
للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً" "مريم: 26".
وكذلك صام نبي الله زكريا عليه السلام عن الكلام حيث يقول الحق جلت قدرته:
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً" "مريم: 10".
وفريضة الصوم إحدي الركائز الأساسية التي بني عليها الإسلام. والصيام عبادة
تعود علي صاحبها بتهذيب النفس وترتقي به إلي أعلي المقامات.
جاءت في تفسير الإمام ابن كثير أقوال عن بعض الصحابة والتابعين أن صيام
السابقين كان ثلاثة أيام من كل شهر ولم يزل مشروعاً من زمان سيدنا نوح عليه
السلام إلي أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.
فالكيان الإنساني - بحكم فطرته التي فطره الله عليها - وحدة تشمل الجسد والروح.
والجسد تتمثل فيه عناصر الأرض من حديد. ونحاس. وكالسيوم. وفوسفور. وأوكسجين. وهيدروجين وكربون.
أما الروح فهي من الأمور التي لا يعلمها إلا الله تعالي حيث يقول سبحانه:
"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"
"الإسراء: 85".
يقول الإمام أبو حامد الغزالي الروح هي: جسم لطيف منبعه تجويف القلب
الجسماني. فينشر بواسطة العروق الضوارب إلي سائر أجزاء البدن. وجريانه في
البدن. وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها علي أعضائها.
يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت. فإنه لا ينتهي إلي
جزء من البيت إلا ويستنير به. والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان.
والروح مثالها السراج. وسريان الروح وحركته في الباطن. مثال حركة السراج في
جوانب البيت بتحريك محركه.
ويقول الإمام ابن سينا: إن الروح تمنح الجسد المادي بواسطة النفس كل ما يتخيل ويفكر ويذكر.
وبعد كل هذا نخلص إلي أن الروح هي السر الإلهي الذي يمنح عن طريق الأعصاب
القوة. إلي كل من الإدراكات العقلية. فيفكر الإنسان. ويتذكر. وينسي. ويحب.
ويشتهي. ويكره. وإلي جهاز البصر فتري العين. ومسام الحواس. فيحس الجلد.
ونستطيع أن نعبر عن هذه الأفعال كلها والصفات بالنفس. فالنفس تري بالعين.
وتسمع بالأذن. وتحس بواسطة مسام الجلد. تتذوق بواسطة الخلايا الموجودة في
اللسان. تلك الأحاسيس والشعور والإدراكات العقلية. بمجموعها غير مادية.
وتسمي بالنفس الإنسانية. فإذا أخذ الله الروح وخلي الجسد منها. انقطعت تلك
الطاقة عن الأسلاك العصبية. وفقدت تلك الحواس. فماتت النفس. التي عبر الله
عنها بقوله جل شأنه: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" "العنكبوت: 57"
وإذا كان الجسم يحتاج إلي نظام الصحة في استيفاء سعادته. فكذلك الروح تحتاج
إلي نظام الدين في استيفاء نموها الطبيعي. ورشدها المأمول. والظفر
بالأماني التي تتطلع إليها. والصيام من سنن الدين. التي تعمل لتكييف الروح.
وهو للروح كالرياضة السنوية للجسم. فكما أن قانون الصحة. يحتم علي كل عامل
- يريد حفظ صحته - أن يريض نفسه شهراً كاملاً في السنة. يقلل فيه من غذاء
النفس. كذلك نظام الصحة الروحية. يفرض علي كل إنسان. أن يقلل شهراً في
السنة من غذاء جسده.
ولما كانت بينة أطباء الأجسام. في ضرورة الإقلال من تغذية النفس شهراً كل
عام هي لزوم تعويض ما فقده الجسم من القوة. مدي الأحد عشر شهراً. نتيجة
الانهماك الفكري كذلك حجة أطباء الأرواح في القصد من الطعام مدي شهر كل
سنة. هي تعويض ما فقدته الروح الإنسانية من جراء تفرغ الإنسان للماديات
طوال العام.
فقد ذكر البروفسور الروسي نيكولايف بيلوي أنه يجب علي الباحث عن الصحة أن
يمارس الجوع التام - الصوم - بالامتناع الكامل عن الطعام لمدة 3-4 أسابيع -
بصفة دورية سنوياً وذلك لتخليص الجسم من النفايات والسموم العالقة بالجسم.
كما يقول الدكتور بندكت رائد الطب الطبيعي في أمريكا: يخطيء من يعتقد أن
الإنسان لا يتغذي إذا امتنع عن الطعام. لأن الجسم يظل يأكل رغم الصوم. وأول
ما يأكله هو هذه المواد الدهنية الموجودة بكثرة في جميع الأجسام حيث تهبط
كمية الدهن الموجودة حول القلب والأجزاء الأخري.
وتشير الدراسات الحديثة إلي ان أول الأعضاء التي يتغذي عليها جسم الإنسان
أثناء الصوم هي الأعضاء المصابة في الأمراض. وخاصة المحتقنة والمتقيحة
والملتهبة.
ومن هنا يعتبر الصوم أول من يزيل الخلايا التالفة والأورام والزوائد اللحمية والأكياس الدهنية والأورام الليفية.
وعلي الجانب الآخر يقول الدكتور حامد البدري: إذا ما استمر الإنسان طوال
السنة لا يريح معدته ولا يعطيها إجازة اعتيادية تستريح فيها. اضطرت المعدة
أن تطلب إجازة عن طريق المرض.
ونجد أحد الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره وهو الدكتور
فاك فادون يقول: إن كل إنسان يحتاج إلي الصوم وإن لم يكن مريضاً لأن سموم
الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله فيقل نشاطه. فإذا
صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بها من
قبل.
ومن هنا يعتبر الصيام القاعدة الطبية الأولي التي لا يمكن أن يشك أحد
بضرورتها. فقد استعان بها الأطباء منذ القدم وإلي يومنا هذا. وهذا ما أشار
إليه الفيلسوف الكبير أبقراط بقوله: استدامة الصحة تكون بترك التكاسل عن
التعب وترك امتلاء المعدة بالطعام.
فالإنسان جسد وروح يتصارعان وشهوة وعقل لا يفتأ بينهما الصراع. غير أن
الشهوة تتشيع للجسد. والعقل يتشيع للروح فالجسد والشهوة معاً في جانب.
والروح والعقل معاً في جانب. ومجال الصراع هو الإنسان.
ومن هنا كان الصوم. ركناً أساسياً من أركان الدين. وهو الركن الذي يجمع بين
واجب التعبد والانقياد لأوامر الحق تبارك وتعالي. وبين ترويض الجسد
والغريزة شهراً كل يوم. ومن شاء أن يزيد فبها ونعمت والزيادة خير. لأنها من
النوافل والتطوع والتقرب إلي الله تعالي حيث يقول أبوهريرة رضي الله عنه
في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: إن رسول الله - صلي الله
عليه وسلم - قال: إن الله قال من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب
إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتي أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به
ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني
لأعيذنه.
والصوم مدرسة نتعلم فيها الصبر والإرادة ومجاهدة النفس ومقارعة الهوي.
ويعلمنا الصوم أيضاً كيف نحس بشعور الآخرين. وخاصة الجائعين.
ولكن وللأسف الشديد نري بعض الناس في زماننا الحاضر قد أفرغوا الصيام من
محتوياته السامية. وجعلوه عادة سنوية خالية من روح الإرادة والمجاهدة.
فنري من يصوم يتأوه ويئن من العطش والجوع. ونري بعض الموظفين الصائمين الذي
يتلكأ في أداء عمله ويتقاعس عن أداء واجب بحجة أنه صائم. ونري من يبقي
ساهراً إلي طلوع الفجر يحي الليل في الخيمة الرمضانية أو في غيرها بالسهر
والأحاديث الفارغة. والمسلسلات التليفزيونية التي تصنع خصيصاً لهذا الشهر
الكريم منها ما هو هادف ومنها ما هو غير ذلك. وكأن رمضان والمسلسلات صنوان
لا يفترقان بحيث لا تكتمل طقوس رمضان بدون تلك المسلسلات.
ومن منبر عقيدتي. ذلك المنبر الشريف وذلك المنبر الحر. الناطق بالحق نطالب
القائمين علي الإعلام في مختلف البلاد الإسلامية وخاصة في مصرنا الحبيبة
ارأفوا بالمسلمين ليتفرغوا لعباداتهم في هذا الشهر الكريم. وأمامكم أحد عشر
شهراً تقدمون فيها أعمالكم ألا تكفيكم؟!
بقلم: فؤاد الدقس
كاتب سوري
يقول الله تعالي في محكم تنزيله: "ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون" "البقرة: 183"
العبادة هي: التقرب إلي الله تعالي بأقصي غايات الخضوع والتذلل له سبحانه
فيما شرعه لعباده من أوامر وتكاليف. ومن أرقي العبادات وأخصها عبادة الصوم
التي قال عنها المولي تبارك وتعالي في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له
إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به.
هكذا شأن الصوم عند المسلم علاقة خاصة بين العبد وربه بلا رياء ولا سمعة تقربه من الله وتجعله من خواصه.
وفي هذه الآية الكريمة يخبر الحق تبارك وتعالي أن الصوم كان ركناً أساسياً
في جميع الأديان السماوية التي دانت بها الأمم السابقة. كما أنه كذلك حتي
في الشرائع الوثنية. فقد كان قدماء المصريين. والإغريق. والرومان. وسكان ما
بين النهرين في العراق. يصومون أياماً مختلفة في العام.
والذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند
والتبت. ومن طقوسهم في نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتي ابتلاع الريق
لمدة أربع وعشرن ساعة. وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحاً
من الشاي. وكان قساوسة جزيرة كريت في اليونان القديمة لا يأكلون طول حياتهم
لحماً ولا سمكاً ولا طعاماً مطبوخاً.
أما في الشرائع السماوية والديانات التي جاء بها المرسلون من عند الله
تعالي فقد روي أن سيدنا نوحاً عليه السلام صام عندما جنحت به سفينته إلي
البر ما شاء الله تعالي له أن يصوم. وهذا الصيام كان شكراً لله تعالي علي
نجاته ومن معه من المؤمنين والله أعلم.
ومعروف أن سيدنا موسي عليه السلام كان يصوم ثلاثين يوماً كل عام وكان
للعبريين صوم خاص يؤدونه. غير أن اليهود. جعلوا يصومون يوماً واحداً في
العام. هو يوم عاشوراء. ابتهاجاً بنجاة نبي الله موسي عليه السلام وبني
إسرائيل من الغرق عندما تبعهم فرعون ولذلك عندما قدم رسول الله - صلي الله
عليه وسلم - المدينة المنصورة مهاجراً وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال -
صلي الله عليه وسلم: نحن أولي بموسي منهم. وطلب من أمته صيام يوم آخر معه
إما قبله وإما بعده لمخالفة اليهود.
وعن صوم النصاري ذكر الشعبي وقتادة وغيرهما أن الله تعالي كتب علي قوم موسي وعيسي عليهما السلام صوم رمضان فغيروا.
ويشبه صوم النصاري وما فرض عليهم - قبل تبديلهم - صوم المسلمين قبل التخفيف عنهم.
وقد صامت السيدة مريم بنت عمران صوم الصمت. وقد تحدث القرآن الكريم عن
صومها فقال: أحكم الحاكمين: "فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت
للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً" "مريم: 26".
وكذلك صام نبي الله زكريا عليه السلام عن الكلام حيث يقول الحق جلت قدرته:
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً" "مريم: 10".
وفريضة الصوم إحدي الركائز الأساسية التي بني عليها الإسلام. والصيام عبادة
تعود علي صاحبها بتهذيب النفس وترتقي به إلي أعلي المقامات.
جاءت في تفسير الإمام ابن كثير أقوال عن بعض الصحابة والتابعين أن صيام
السابقين كان ثلاثة أيام من كل شهر ولم يزل مشروعاً من زمان سيدنا نوح عليه
السلام إلي أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان.
فالكيان الإنساني - بحكم فطرته التي فطره الله عليها - وحدة تشمل الجسد والروح.
والجسد تتمثل فيه عناصر الأرض من حديد. ونحاس. وكالسيوم. وفوسفور. وأوكسجين. وهيدروجين وكربون.
أما الروح فهي من الأمور التي لا يعلمها إلا الله تعالي حيث يقول سبحانه:
"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"
"الإسراء: 85".
يقول الإمام أبو حامد الغزالي الروح هي: جسم لطيف منبعه تجويف القلب
الجسماني. فينشر بواسطة العروق الضوارب إلي سائر أجزاء البدن. وجريانه في
البدن. وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها علي أعضائها.
يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت. فإنه لا ينتهي إلي
جزء من البيت إلا ويستنير به. والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان.
والروح مثالها السراج. وسريان الروح وحركته في الباطن. مثال حركة السراج في
جوانب البيت بتحريك محركه.
ويقول الإمام ابن سينا: إن الروح تمنح الجسد المادي بواسطة النفس كل ما يتخيل ويفكر ويذكر.
وبعد كل هذا نخلص إلي أن الروح هي السر الإلهي الذي يمنح عن طريق الأعصاب
القوة. إلي كل من الإدراكات العقلية. فيفكر الإنسان. ويتذكر. وينسي. ويحب.
ويشتهي. ويكره. وإلي جهاز البصر فتري العين. ومسام الحواس. فيحس الجلد.
ونستطيع أن نعبر عن هذه الأفعال كلها والصفات بالنفس. فالنفس تري بالعين.
وتسمع بالأذن. وتحس بواسطة مسام الجلد. تتذوق بواسطة الخلايا الموجودة في
اللسان. تلك الأحاسيس والشعور والإدراكات العقلية. بمجموعها غير مادية.
وتسمي بالنفس الإنسانية. فإذا أخذ الله الروح وخلي الجسد منها. انقطعت تلك
الطاقة عن الأسلاك العصبية. وفقدت تلك الحواس. فماتت النفس. التي عبر الله
عنها بقوله جل شأنه: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" "العنكبوت: 57"
وإذا كان الجسم يحتاج إلي نظام الصحة في استيفاء سعادته. فكذلك الروح تحتاج
إلي نظام الدين في استيفاء نموها الطبيعي. ورشدها المأمول. والظفر
بالأماني التي تتطلع إليها. والصيام من سنن الدين. التي تعمل لتكييف الروح.
وهو للروح كالرياضة السنوية للجسم. فكما أن قانون الصحة. يحتم علي كل عامل
- يريد حفظ صحته - أن يريض نفسه شهراً كاملاً في السنة. يقلل فيه من غذاء
النفس. كذلك نظام الصحة الروحية. يفرض علي كل إنسان. أن يقلل شهراً في
السنة من غذاء جسده.
ولما كانت بينة أطباء الأجسام. في ضرورة الإقلال من تغذية النفس شهراً كل
عام هي لزوم تعويض ما فقده الجسم من القوة. مدي الأحد عشر شهراً. نتيجة
الانهماك الفكري كذلك حجة أطباء الأرواح في القصد من الطعام مدي شهر كل
سنة. هي تعويض ما فقدته الروح الإنسانية من جراء تفرغ الإنسان للماديات
طوال العام.
فقد ذكر البروفسور الروسي نيكولايف بيلوي أنه يجب علي الباحث عن الصحة أن
يمارس الجوع التام - الصوم - بالامتناع الكامل عن الطعام لمدة 3-4 أسابيع -
بصفة دورية سنوياً وذلك لتخليص الجسم من النفايات والسموم العالقة بالجسم.
كما يقول الدكتور بندكت رائد الطب الطبيعي في أمريكا: يخطيء من يعتقد أن
الإنسان لا يتغذي إذا امتنع عن الطعام. لأن الجسم يظل يأكل رغم الصوم. وأول
ما يأكله هو هذه المواد الدهنية الموجودة بكثرة في جميع الأجسام حيث تهبط
كمية الدهن الموجودة حول القلب والأجزاء الأخري.
وتشير الدراسات الحديثة إلي ان أول الأعضاء التي يتغذي عليها جسم الإنسان
أثناء الصوم هي الأعضاء المصابة في الأمراض. وخاصة المحتقنة والمتقيحة
والملتهبة.
ومن هنا يعتبر الصوم أول من يزيل الخلايا التالفة والأورام والزوائد اللحمية والأكياس الدهنية والأورام الليفية.
وعلي الجانب الآخر يقول الدكتور حامد البدري: إذا ما استمر الإنسان طوال
السنة لا يريح معدته ولا يعطيها إجازة اعتيادية تستريح فيها. اضطرت المعدة
أن تطلب إجازة عن طريق المرض.
ونجد أحد الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره وهو الدكتور
فاك فادون يقول: إن كل إنسان يحتاج إلي الصوم وإن لم يكن مريضاً لأن سموم
الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله فيقل نشاطه. فإذا
صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بها من
قبل.
ومن هنا يعتبر الصيام القاعدة الطبية الأولي التي لا يمكن أن يشك أحد
بضرورتها. فقد استعان بها الأطباء منذ القدم وإلي يومنا هذا. وهذا ما أشار
إليه الفيلسوف الكبير أبقراط بقوله: استدامة الصحة تكون بترك التكاسل عن
التعب وترك امتلاء المعدة بالطعام.
فالإنسان جسد وروح يتصارعان وشهوة وعقل لا يفتأ بينهما الصراع. غير أن
الشهوة تتشيع للجسد. والعقل يتشيع للروح فالجسد والشهوة معاً في جانب.
والروح والعقل معاً في جانب. ومجال الصراع هو الإنسان.
ومن هنا كان الصوم. ركناً أساسياً من أركان الدين. وهو الركن الذي يجمع بين
واجب التعبد والانقياد لأوامر الحق تبارك وتعالي. وبين ترويض الجسد
والغريزة شهراً كل يوم. ومن شاء أن يزيد فبها ونعمت والزيادة خير. لأنها من
النوافل والتطوع والتقرب إلي الله تعالي حيث يقول أبوهريرة رضي الله عنه
في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: إن رسول الله - صلي الله
عليه وسلم - قال: إن الله قال من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب
إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتي أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به
ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني
لأعيذنه.
والصوم مدرسة نتعلم فيها الصبر والإرادة ومجاهدة النفس ومقارعة الهوي.
ويعلمنا الصوم أيضاً كيف نحس بشعور الآخرين. وخاصة الجائعين.
ولكن وللأسف الشديد نري بعض الناس في زماننا الحاضر قد أفرغوا الصيام من
محتوياته السامية. وجعلوه عادة سنوية خالية من روح الإرادة والمجاهدة.
فنري من يصوم يتأوه ويئن من العطش والجوع. ونري بعض الموظفين الصائمين الذي
يتلكأ في أداء عمله ويتقاعس عن أداء واجب بحجة أنه صائم. ونري من يبقي
ساهراً إلي طلوع الفجر يحي الليل في الخيمة الرمضانية أو في غيرها بالسهر
والأحاديث الفارغة. والمسلسلات التليفزيونية التي تصنع خصيصاً لهذا الشهر
الكريم منها ما هو هادف ومنها ما هو غير ذلك. وكأن رمضان والمسلسلات صنوان
لا يفترقان بحيث لا تكتمل طقوس رمضان بدون تلك المسلسلات.
ومن منبر عقيدتي. ذلك المنبر الشريف وذلك المنبر الحر. الناطق بالحق نطالب
القائمين علي الإعلام في مختلف البلاد الإسلامية وخاصة في مصرنا الحبيبة
ارأفوا بالمسلمين ليتفرغوا لعباداتهم في هذا الشهر الكريم. وأمامكم أحد عشر
شهراً تقدمون فيها أعمالكم ألا تكفيكم؟!